الأربعاء، 22 يونيو 2016

وصايا عاصي الرحباني
الى
فيروز، منصور وزياد!



بقلم جوزف قرداحي
في العام 2004 وفي مناسبة ذكراه السنوية، كتبت هذه الوصية على لسان عاصي الرحباني في مجلة "الشبكة" ضمن  زاويتي الاسبوعية "محطة كلام".
كان ذلك في العام 2004، وكان منصور حياً يُرزق، وكان جورج ابراهيم الخوري في آخر فترته الذهبية من رئاسة تحرير "الشبكة" وفي آخر درجة من سلم تربعه على قمة مجده الصحفي الذي استمر نصف قرن، قبل أن تخونه يده مع القلم، وقبل أن تكر سبحة خيانات الفنانين الذين صنع مجدهم بواسطة هذه اليد وهذا القلم، بعدما عجزت الدماء التي تجري في شرايين يده أن تمد قلمه بحبر العطاء.
كان ذلك العام عام النهايات، نهايات عهد الوفاء مع غير الأوفياء، وبداية سقوط آخر أوراقي من تلك الشجرة الباسقة التي اسمها "دار الصياد" التي طالما سقيتها الكثير من دموعي وعرقي وشغفي كي تبقى وارفة الأغصان مخضرة الأوراق وعلى مدى أكثر من خمسة وعشرين عاماً!
ما مناسبة هذا الكلام؟! ولماذا أكتبه في هذا الوقت بالذات؟!
مناسبة هذا الكلام، أنه يضيء على أكثر من مناسبة. أولاً هي مناسبة الذكرى السنوية لعبقري الشعر والموسيقى عاصي، وثانياً هي مناسبة عيد الأب التي سعى إلى تثبيتها رسمياً في روزنامة المناسبات الأديب الراحل جورج ابرهيم الخوري.
ولكن ما علاقة هذه بتلك، ولماذا الكلام عن جورج في ذكرى عاصي؟!

جورج ابراهيم الخوري


علاقة جورج ابرهيم الخوري بتلك الوصية أساسية، وهي بيت القصيد. فحين قرأ الأستاذ جورج الوصية قبل نشرها في زاوية "محطة كلام" قال لي:
-        غداً ستقرأ فيروز هذا الكلام، وسيقرأه أيضاً سلفها منصور ومعه العائلة الرحبانية الكريمة، ولكن شيئاً من كل هذا لن يتغيَّر. ستبقى فيروز بعيدة عن شقيق زوجها ابتعاد الشمس عن القمر، وسيبقى منصور فارساً يمتطي صهوة جواده وحيداً، وسيبقى زياد مغرداً خارج السرب العائلي وإن أعطى والدته أفضل ما عنده، وستبقى أوصال العائلة الرحبانية مفككة إمتداداً إلى ورثة عاصي ومنصور. فالقضية يا عزيزي ما عادت قضية فن ورسالة، بل تحوّلت إلى قضية تركة وميراث وتقاسم أرباح وحصص.
وبعد أن أخذ مجة عميقة من سيجارته نافثاً دخانها في فضاء غرفة مكتبه بـ"دار الصياد"، تابع يقول:
-        إنها سنّة "حضارة المدينة غير الفاضلة" وقوانينها العجيبة الغريبة، فحين يدخل إله المال من الباب يدخل معه شياطينه، لتهرب ملائكة المحبة من الشباك".
ثم طوى أوراق المقال ودفعها نحوي، لأسلمها إلى المدير التنفيذي أنطوان فرنسيس، "القاعد" على أعصابه لتسكير عدد الأسبوع من مجلة "الشبكة"، وختم حديثه ممازحاً:
-        إذا حدثت المعجزة وتحققت وصايا عاصي وبادرت فيروز إلى مصالحة منصور تأثراً برسالتك التي يبدو أنها وصاياك أكثر منها وصايا عاصي، فأنا أعدك بأن الغلاف الأول الذي سيجمع فيروز بسلفها منصور سيكون بقلمك وكاميرتك!
طبعاً، لم تحدث المعجزة، ومرّت الأيام والسنين، ليرحل منصور وقبله جورج ابراهيم الخوري، ولتبقى فيروز هي فيروز المعتكفة أبداً في عزلتها، ولترتقي إلى مرتبة الآلهة الصامتين، ولتبقى وصايا عاصي الرحباني، حبراً على ورق، وأمنيات لو تحققت، لغيّرت الكثير من تاريخ الفن المسرحي والغنائي في فترة غياب عاصي عن ثالوثه الفني، وقبل أن ينتقل العلاّمة منصور الرحباني إلى العالم الآخر!

الوصايا



هذه الوصايا أعيد تدوينها هنا، تماماً كما نشرتُها العام 2004 في مجلة "الشبكة" التي شاء ورثة مؤسسها الراحل الكبير سعيد فريحة محو ذاكرتها  الذهبية بشخطة قلم، وتحويلها إلى مجلة خدمات عامة وعلاقات خاصة وللأسف الشديد:

لا ادري لماذا اختارني عاصي الرحباني شخصياً لإيصال وصاياه الى كل من زوجته فيروز وشقيقه منصور وابنه زياد.
ولا اعرف ما هي صلة الوصل التي تربطني بهذه العائلة الكريمة، اللهم سوى تأثري الكبير وسكري الدائم بصوت فيروز حامل الروح الرحبانية، المرفرف في آفاق الكون اللامتناهية.
جاءني عاصي الرحباني وانا في سبات الحلم، وكان على هيئة رجل حكيم بلحية كثة بيضاء، وعباءة مطرزة بطيور تتخذ شكل ونوطات السلم الموسيقي وقال لي:
-                 قل على لساني ولا تتردد، الى كل من فيروز ومنصور وزياد، ان عاصي يوصيكم وبالحاح ان تجتمعوا وتتضامنوا قبل فوات الاوان، لانه: "مهما تأخر اللي جايي، عا غفلي بيوصل من خلف الضو"!
وتابع عاصي يقول:
-                 قل على لساني ولا تتردد، ان ساعات العمر قليلة، وان التركة ثقيلة، وان منصور مهما يمتلك من ابداع هو لا شيء من دون فيروز، وان فيروز مهما أمِلَت في ابنها زياد هي لا شيء من غير منصور، وان زياد... هذا العبقري زياد، فليتذكر ان عبقريته في لحنه الخالد "قديش كان في ناس" كانت ستبقى ناقصة لولا تدخل عمه منصور الذي لولاه ما كنتُ انا، ولولاي ما كان منصور وما كان "الاخوين رحباني" وما كانت فيروز وما كانت الاغنية اللبنانية التي يشوهها وللأسف بعض افراد العائلة!! ولكن قل لغسان ان يركز على اغنياته الاجتماعية الساخرة، ويبتعد عن مخالب القطط، فمن يلعب مع القط عليه ان يتقي خرمشته! وقل لاسامة ان يتحد مع زياد وغسان، حتى ولولم ينسجم مع مزاجية زياد... فزياد بحاجة الى التفاف العائلة من حوله ولو لم يفصح هو عن ذلك.


  وتابع عاصي يقول:
-  قل لفيروز، حبيبة روحي، وملهمة عقلي، ورفيقة دربي، هذه الدرب الطويلة-القصيرة بكل شقائها ودموعها واحزانها، بكل تجاربها ومحنها، بكل فرحها المتوج بالالم، وابتساماتها المبتورة بالمعاناة... قل لها ان اعظم الحب هو التفاني والتسامح والغفران، فانتِ وحدك بتفانيك وتسامحك وغفرانك، قادرة ان تجمعي العائلة تحت جناحيك. وجناحاك تتسعان حتى للكبير الباقي توأمي بالروح منصور!   
كلام عاصي أرعبني بقدر ما افرحني، اذ يُحمِّلني مسؤولية فوق طاقتي وامكانياتي. وقبل ان يغيب سألته: "ولكن لماذا اخترتني انا بالذات لهذه المهمة الشاقة والمستحيلة؟!" فاجاب: "لانك الوحيد الذي لا ناقة لك ولا جمل في الأمر... فانت تحب فيروز وتحبني وتحب منصور وزياد بنقاوة، زاهداً بأي مجد يأتيك من هذه المهمة، غير طامع بتحويل وصاياي الى صفقة تتوقع قبض ثمنها!
وقبل ان يفسح لي في المجال لاستوضحه المزيد، حملته جوقة من الملائكة وهي تنشد:
"مهما تأخر جايي/ ما بيضيع اللي جايي/
عا غفلي بيوصل من خلف الضو/ من خلف الغيم/
 ... وابتعدت الملائكة به الى خلف الضوء الكبير في السحاب!

رؤيا...لم أشأ الافصاح عنها، لو لم تتكرر في سباتي مرات عديدة، ويلح هذا العاصي في اعلانها... فمن له اذنان سامعتان فليسمع، وما على الرسول الا البلاغ!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق