أوراق ثقافية

الأكراد
في الثقافة العربية!
 



بقلم د. سامية السلوم
 وماذا يريد الباحث غير معلومات صحيحة تعينه ليرى بوضوح طريق بحثه في مجهوله الجميل؟!...
كانت صدفةً مدبّرة أن يأتي أستاذي الدكتور سامي سويدان إلى المحاضرة في دبلوم الدراسات العليا، ومعه ديوان "طيش الياقوت". وكعادته وضع كتبه على الطاولة، ووضع لائحة أسمائنا لنوقّع أننا حضرنا المحاضرة.
رأيت الديوان ولفتني عنوانه، فاستأذنت أستاذي برؤية هذا الديوان، وكانت موافقته نقطة التحوّل الكبرى في شخصيتي النقديّة. إنّه الشاعر سليم بركات، يكتب ما لم أفهمه من خمرة لغوية استفزّت عنادي، وخاطبتُ نفسي "إذا لم أفهم ما هو مكتوب فلا يحقّ لي أن أتابع الدكتوراه".
وبدأت رحلة بحثي مع سليم بركات دون مراجع سابقة ترشدني إلى دليلٍ لقراءة طلاسمه التي عرفت لاحقاً أنها كردية منزوعة عن أصلها ومترجِمة لروح الكردي في الطود...
في كتاب "قضايا الشعر الحديث" لجهاد فاضل، وردت حوارات مع شعراء عدّة منهم الشاعر سليم بركات، ومكتوب أنّه من لبنان.
بحثت. لا خيط يدلّني على خلفية النص الزئبقيّ، الذي على غرابته فيه ما يشدّك نحو فنية راقية.
لا شيء في المكتبات الجامعية في بيروت سوى مجموعة شعرية لسليم بركات سمّيت "الديوان" وفيها نجد إنتاجه السابق على "طيش الياقوت"، وهي من إصدارات دار التنوير المقفلة بالشمع الأحمر، منذ زمن.

قصدت حمص لأرى شيئاً عن سليم بركات في المكتبة الضخمة لمركزها الثقافي العربي. لم أجد. قصدت مكتبة الجامعة في كلية الآداب في حمص، فوجدت كتباً منها دواوين يتضمّنها "الديوان" للشاعر، ومنها كتابين عن القومية العربية للدكتور
 سليم بركات أستاذ الفكر السياسي بجامعة دمشق. وقد خلط أرشيف المكتبة بين الشخصيتين، لتشابه الاسم.
وفي صدفة جميلة رأيت في مكتبة البيت مجموعة كبيرة من مجلّة دراسات اشتراكية وفيها مقالة لإبراهيم اليوسف بعنوان "وضوح القضية وغموض النص". عرفت من خلالها أنّ للشاعر قضية، وهي واضحة، وأنا لا أعرفها طبعاً، ونصّه هو الغامض. فرحت لأني وجدت خيطاً يصلني بنبش أساس النص. عدت إلى أستاذي فرحةً بما وصلت إليه، قرأ المقالة واستغرب لسعادتي، لأن المقالة لا تشكل بسطحيّتها النقدية (على حد تعبيره) مرجعاً لدراسة نص الشاعر، فقلت "إن إبراهيم اليوسف يحب سليم بركات هذا ما رأيته في النص"، ضحك أستاذي، أردفتُ "يحبّه، بمعنى يعرفه عن قرب وهناك ما هو جامع بينهما وسأرى جماعة "دراسات اشتراكية" لأصل إلى إبراهيم اليوسف".

تواصلت مع أسرة "دراسات اشتراكية" الذين توصّلوا إلى رقم هاتف إبراهيم اليوسف بعد عشرة أشهر من البحث. كنت خلالها قد استهديت إلى كتاب "السيرتان" لسليم بركات وفيه عن طفولته وصباه ما يُعدّ مفتاحاً من مفاتيح قراءته.
اتصلت بإبراهيم اليوسف وعرّفته بنفسي، وسألته عن سليم بركات الشاعر إن كان يعرفه فقال "حبيبي سليم، أعرفه وعندي أرشيف جمعته بعناية..." وأخبرني أنه جاهز تماماً لفك غموض القضية عنده. وأخبرني أنّه لا يمكنه إرسال الأرشيف، لأنهم يفتّشون النملة الكردية الخارجة من القامشلي".
ذهبت إلى القامشلي مع أخي، بقينا يومين في استضافة الشاعر الناقد الكردي إبراهيم اليوسف، على مقربة من الحدود السورية التركية. تعرفت في اليومين على بيت سليم بركات والشارع والفرن وبعض الأصدقاء الواردين في "السيرتان".
وأخبرني إبراهيم عن العلاقة الشائكة بين الكرد الذين يعرفون ثقافة سليم بركات لكنّهم لا يجيدون الخوض في وعورة لغته، وبين العرب الذين يفهمون لغته دون عمقها الكردي لأنهم لا يعرفون ثقافته، ولا يجرؤ أحد على دراسة سليم بركات نظراً إلى لغته من جهة ونظراً إلى السياسة وخطرها، لأن الشاعر يثير مسألة الكرد في وطنه سورية، ذلك الوطن العربي السوري، الذي يحكمه حزب البعث، ولا يرى لغير العرب وجوداً، لذلك يحمل الكردي هوية تخبر أنه عربي قبل كونه سورياً، وكذلك قد يُعدّ الباحث طرفاً سياسياً مشجعاً لموقف الكرد من القضايا العربية، مهما كان الباحث موضوعياً.
لكن للبحث مواقف أوسع من ضيق السياسة، وهي طريق جميل للمعرفة دون قيود.
وأجاب إبراهيم عن تساؤلاتي ما استطاع، وصوّرت أرشيفه. وعدت لأنهل منه ما أريد من مقالات كتبها الشاعر بركات أو كُتبت عنه، ومن حوارات ومن أجوبة كتبتها بخط يدي عن سؤالات تتعلّق بأدبيات الكرد في لغتهم وحياتهم.
تابعت مع أكراد في بيروت حركات الشعب الكردي وأطيافه ومعتقداته و... وفي النهاية كانت دراستي "الصورة في شعر سليم بركات من خلال ديوانه طيش الياقوت" باكورة أعمالي النقدية وهي رسالة الماجستير التي أخذت من وقتي أربع سنوات عرفت من خلالها ما لا يعرفه العربي عن أخيه الكردي، وما لا يعرفه الكردي عن لغة العربي، فكانت دراستي صلة وصلٍ بين روح الكردي وترجمتها إلى اللغة العربية، ليفهم الشريك العربي أنّ في أدبيّاته حضارات غير العربية وغير الإسلامية.

وبمثابة الشكر للشاعر إبراهيم اليوسف، الذي لا يرقى شعره إلى فنية شعر سليم بركات، لأنه يتبع المنهج الواقعي، ويريد أن يعبّر لجمهوره عن هواجسه، على طريقة الشيوعيين. عبّر إبراهيم في ديوانه "عويل رسول الممالك" عن الأكراد بامتياز، في سورية والعراق وتركيا، وكان كتابي النقدي "حين تبكي اللغة العربية أكرادها –مسافة دمع بين صراخ الدم والآذان الطين" دراسة أظهرت ملامح المجتمع الكردي في الثقافة العربية التي تلغيه بأساليبها السلطوية في مجالات عدّة بدءاً باللغة وصولاً إلى الدماء وتجريب تأثير النووي على الإنسان بضرب مناطق كردية...
كانت رسالة الشاعرين الكرديين رسالة حضارية واضحة إلى القارئ العربي، وكلّ منهما، بأسلوبه، حاول أن يحاور القارئ العربي ويوصل إليه ألمه في وطنٍ خارج لغة الجغرافية وداخل اللغة العربية وطن زئبقيّ يوازي اهتزاز الأرض تحت أكرادها في مهرجاناتهم.
درست بعدها ثقافة الأمازيغ من خلال شعر الشاعر التونسي المنصف الوهايبي، تلك الثقافة التي امتزجت، دون تماهٍ، بثقافة الإسلام عند أمازيغ المغرب العربي.


وفي النهاية، جميلة اللغة العربية التي اعتنى بها أبناؤها على أنها لغة الكون لأنهم في ثقافتهم عرفوها لغة الله الخالق في تواصله مع الإنسان. جميلة هذه اللغة عندما تحمل ثقافات متعددة بقالب فني بلسان عربي أصيل، كان يوماً، في ثقافة العرب المسلمين، لغة تواصل الله والناس، ليكون في الأدبيات تاريخياً وحتى اليوم لغة تواصل حضارات تاريخية تؤمن بإمكانيات اللغة ومرونتها في تجسيد فكر الآخر، علّها تؤثّر في أهلها فيكونون مرنين منفتحين على الثقافات إن نطقت بلغتهم، ولاحقاً إن لم تنطق بها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق