الجمعة، 13 نوفمبر 2015

الحروب الدينية
من كربلاء حتى داعش


يصر الاسلاميون على ان تكون الشريعة هي مصدر القوانين، وهذا يعني أنها ستكون مستمدة من النصوص الإسلامية المقدسة: أي الوحي مباشرة من عند الله إلى النبي محمد، والتي تتمثل في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي.
بينما يقول العلمانيون بأن القوانين يجب أن تستمد من العقل البشري والتجارب الإنسانية، وليس من الإسلام (أو ليس من الإسلام وحده كما يقول العلمانيون المعتدلون).

لقد دخلت العلمانية الي الشرق الأوسط مع الاستعمار الأوروبي، وقد تبنتها العديد من النخب الإسلامية بعد الاستقلال على وجه التحديد لأن الدول الأوروبية القوية تمكنت من هزيمة وإذلال الإمبراطورية العثمانية، والتي كان ينظر إليها بشكل عام على أنها الخلافة الإسلامية، أو النظام السياسي الإسلامي السائد.

ولكن العلمانية واجهت أصوات معارضة: وهوالإسلام السياسي. وبالرغم من أن الإسلاميين لا يقدمون فكرهم على أنه مذهب بل ببساطة على أنه الإسلام – أو الدين الحقيقي الذي جاء به النبي محمد – إلا أن نظامهم الديني لديه جذور أكثر حداثة. ففي الربع الثاني من القرن العشرين، نشأت قناعة لدى الجماعات الأولى من الإسلاميين بأنه من الصعب العيش كمسلم ملتزم في ظل نظام علماني، ولذلك بدأوا في تنظيم حركات المقاومة.

وفي عقد الخمسينيات من القرن العشرين، أصبح الإسلاميون أكثر راديكالية، وبدأوا بالدعوة للعودة إلى تطبيق الشريعة بواسطة الدولة. وظلت العلمانية تتمتع باليد العليا حتى عقد الستينيات من ذلك القرن، ولكن كانت هناك محطات مهمة في عقود لاحقة –تمثلت في هزيمة مصر العلمانية على يد إسرائيل في عام 1967، ثم اندلعت الثورة الإسلامية عام 1979 في إيران، وحرب الخليج 1990-1991، فتحول الزخم ورجحت لصالح الإسلام السياسي.

إذن، هناك من يرى أن الإسلام السياسي قد انتصر بالفعل. بالرغم من أن المسلمين في الوقت الراهن ليسوا علمانيين فقط ولا إسلاميين فقط، ومع ذلك فالمسلم العادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يميل إلى الإسلام السياسي.

فقد أظهر استطلاع للرأي أعده مركز بيو للأبحاث في عام 2013، أن أغلبية كبيرة في مصر والعراق والأردن، والمغرب، والأراضي الفلسطينية ترغب في رؤية الشريعة كقانون للدولة. كما كشف استطلاع أجرته مؤسسة غالوب في عام 2012، أنه في خمسة بلدان في المنطقة وهي مصر وليبيا وسوريا وتونس واليمن، كانت النساء مثل الرجال يؤيدن تطبيق الشريعة. وبالرغم من الانقسامات الداخلية العميقة التي لا تزال قائمة داخل معسكر الإسلاميين على سبيل المثال حول دور الدين في الحياة العامة ودور رجال الدين في الحكومة، إلاّ أن الحكام العلمانيين الآن يحتضنون عناصر من أنصار الإسلام السياسي.

وبالرغم من هذه النجاحات، إلاّ أن الإسلام السياسي لا يزال يواجه شكوكا حول قدرته على البقاء والمراقبين الخارجيين رفضوا الإسلام السياسي على أنه فكرة لا تواكب الحداثة.

وفي الآونة الأخيرة، أكد الخبراء أن تصاعد العنف في الشرق الأوسط، بما في ذلك العمليات الإرهابية الانتحارية وقطع الرؤوس التي تمارسها الجماعات الجهادية مثل تنظيم داعش، هو علامة على وجود حركة يائسة في مراحلها الأخيرة.
إذا كان هناك ثمة درس يمكن أن يقدمه تاريخ الفتن الأيديولوجية في أوروبا نفسها لمنطقة الشرق الأوسط، فهو باختصار: لا تتخلوا عن الإسلام السياسي. فالحروب الدينية في أوروبا تبين لماذا يعتبر الاستخفاف بالأيديولوجية التي عفا عليها الزمن على ما يبدو، أمرا خطيراً للغاية.
في العديد من المحطات والمراحل خلال تلك الحروب، كان المنطق يملي بوضع حد للأعمال العدائية، حيث أن عبء التنافس بين الكاثوليك والبروتستانت كان يقع على السكان المحليين وعلى الاقتصادات. وفي عدة منعطفات تاريخية، بما في ذلك في عام 1555، عندما وافقت بعض الإمارات الألمانية البارزة على تقرير مصيرها من الناحية الدينية، ثم في عقد التسعينيات من نفس القرن عندما انتهت الحروب الدينية في فرنسا، وحصلت الجمهورية الهولندية البروتستانتية على استقلالها من اسبانيا الكاثوليكية، بدا أن الأزمة قد مرت. كما بدا أن الأمراء والنبلاء، ومجالس المدن، ورعاياهم قد استقروا على السلام العملي. حيث سادت العقلانية السياسية البراغماتية، وتزايدت الآمال في أوروبا جديدة تسعى فيها الدول إلى تحقيق المصالح المادية، وليس المطامح المذهبية.



لكن أوروبا لم تتخلص من العنف الأيديولوجي، لأن أزمة الشرعية التي أدت إلى ذلك العنف ظلت قائمة دون حل. وقد بقي معظم الأوروبيين يعتقدون بأن الاستقرار السياسي الدائم يتطلب حالة من التوحد أو التشابه الديني. وطالما بقوا على ذلك الاعتقاد، يمكن لأدنى شرارة أن تعيد استقطابهم إلى مجموعات معارضة متطرفة، وهو ما حدث بالضبط عندما دفع التمرد البروتستانتي في ” بوهيميا “أوروبا إلى حرب الثلاثين عاما في عام 1618م. حتى ذلك الوقت، لم يكن الأوروبيين قد فصلوا مسائل الدين عن الأمور السياسة، وبنهاية القرن، فقدت تلك العقائد الدينية قوتها التحريضية.

لقد حدث نوع مختلف من الترويج الإيديولوجي المكشوف في حقبة زمنية حديثة، خلال الصراع العالمي بين الليبرالية والشيوعية في القرن العشرين. ففي عقد الثلاثينيات من القرن العشرين، كانت المتاعب التي تسبب فيها الكساد العظيم في تلك الفترة أقنعت العديد من المفكرين الغربيين البارزين بأن الديمقراطية الليبرالية فكرة فات أوانها. وقد بدا لفترة من الوقت، أن الدول المركزية ذات القوانين والأنظمة القسرية كانت مجهزة بشكل أفضل للتعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة، مما دفع بعض المفكرين لاعتناق الشيوعية. بل هناك عدد قليل أيضاً قام بزيارة ​​الاتحاد السوفياتي وعبر علانية عن إعجابه، حيث أن الصناعة لم تتوقف في عهد جوزيف ستالين، وكان التصنيع يسير على قدم وساق ولم يدخل العمال في الإضراب. هذه المشاعر كتبها الصحفي الأمريكي لينكولن ستيفنز: "لقد كنت في رحلة إلى المستقبل، إنها فكرة ناجحة." لكن في نهاية المطاف، انتعشت الديمقراطية الليبرالية وكسبت الرهان.

ليس المقصود هنا أن الإسلام السياسي سينجح بالضرورة في الشرق الأوسط، إلا أن الأذكياء يمكنهم التقليل من جدوى أنظمة سياسية بديلة، وأحيانا بنتائج خطيرة. إن من أسرار بقاء الإسلام السياسي لهذه المدة الطويلة هو أن الآخرين درجوا بإستمرار على التقليل من قدره. ويظهر التاريخ أيضا أن عمر العقيدة أو المذهب الفكري يمكن أن يطول عندما يكون في كنف دولة راعية، كما حدث مع الديمقراطية الليبرالية في ثلاثينيات القرن العشرين وكما هو الحال مع الإسلام السياسي اليوم، وهو أبعد من أن يكون في طريقه للخروج، بل إنه يتأهب لجولة ثانية.

باسم الإله؟
الإسلام السياسي، مثل العديد من الأيديولوجيات المتنافسة القديمة، ليست متجانسة. وبالرغم من أن الإسلاميين يتفقون بشكل عام في إخلاصهم للشريعة، ألا أن مشاربهم مختلفة: فهم بين السنة والشيعة، والمتطرفين والمعتدلين، والقوميين والأمميين، بل حتى "الامبرياليين".

وقد أدى هذا التباين إلى إثارة نقاش في الغرب حول ما اذا كان ينبغي على الولايات المتحدة وحلفاؤها أن يستوعبوا المعتدلين، وهي النسخة البراغماتية من الإسلام السياسي بحيث تتنافس مع الحركات الأكثر تطرفاً. فالذين يرفضون احتواء الولايات المتحدة وحلفائها لأي من فصائل الإسلام السياسي يتصورون الإسلام السياسي حركة واحدة، توحدها الكراهية للغرب. وأما الذين يؤيدون الاحتواء، يرون أن الإسلام السياسي جماعات متفرقة من الداخل.

هذا النقاش ليس بجديد، ومعارضي هذا الفكر كثيرا ما يحاولون استغلال الانقسامات الأيديولوجية لترجيح كفة الصراع لصالحهم. فعبر التاريخ الغربي، ظلت القوى الخارجية تحاول من وقت لآخر استخدام تكتيكات مثل "فرق واحتل"، بالرغم من أنها خرجت بنتائج مختلطة، وفي بعض الأحيان، كانت نتائجها عكسية. تأخذ منحى الحروب الدينية مرة أخرى. فهذا الصراع الطويل أدى إلى حدوث انشقاقات في الأيديولوجيات المهيمنة في أوروبا، وبعض الإيديولوجيات الناتجة صمدت لتتنافس مع النسخ الأصلية. فالبروتستانتية بدأت لوثرية في البداية ولكن سرعان ما تطور مذهب (Zwinglianism ) في سويسرا و (Anabaptism ) في ألمانيا، قبل أن تنتشر نسخة الكالفينية في فرنسا والأنجليكانية في انجلترا.

الكالفينيون واللوثريون كانوا يتنافسون في الغالب على النفوذ وربما كانوا أشد عداوة لبعضهم البعض من أي مجموعات كاثوليكية أخرى. وسلالة هابسبورغ الكاثوليكية التي حكمت الإمبراطورية الرومانية المقدسة عملت بلا كلل من أجل تعميق وتغذية هذه الانقسامات. لكن في نهاية المطاف، فشلت هذه الاستراتيجية ولم تنجح لا في إضعاف الكالفينيين ولا في منعهم من تشكيل جبهة موحدة مع اللوثريين في حرب الثلاثين عاما.

والخدعة التي تعرض لها الغرباء، كانت في تأكيد ما إذا كان بعض المنظرين يميلون لمحاربة التطرف ومعرفة كيفية زراعته. وكان من الممكن القيام بذلك بنجاح.



الصراعات الأيديولوجية في كثير من الأحيان تعمل على تعميق الانقسامات الاجتماعية لدرجة أن الناس أصبحت أكثر ولاء للأجانب الذين يؤمنون بنفس مبادئهم بدلاً من بني جلدتهم الذين لا يؤمنون بهذه المبادئ. وهذه الاشتباكات تسهم بتهيئة الشعوب والدول إما للصداقة أو العداوة مع الجهات الخارجية الفاعلة، وخصوصا مع الجهات القوية بما يكفي كي تمكنها لترجيح الكفة لصالحهم أو لصالح خصومهم. كما أن الجهات الأجنبية من جانبها، ترى في هذه الأزمات فرص لتكوين صداقات جديدة أو لمنع ظهور أعداء جدد.
النزاع الدائر حالياً بين الإسلام السياسي والعلمانية، سينتهي في يوم من الأيام كما انتهي غيره من المنافسات الفكرية الطويلة الأخرى. والقوى التي تتدخل في النزاعات من الخارج لا تحتاج لأن يكون لديها أية رهانات دينية في النزاع؛ أحيانا الرهان المادي وحده يشكل دافعاً كافياً للتدخل.


وفي أحيان أخرى، الحسابات الأيديولوجية والمادية تتضافر معاً فتدفع تلك القوى إلى التدخل. على سبيل المثال، خلال ثورات الربيع العربي في عام 2011، أرسلت المملكة العربية السعودية التي يهيمن عليها السنة قوات عسكرية الى البحرين للمساعدة في وقف التمرد الشيعي، وبالتالي احتواء تمدد الإسلام الشيعي من تلك الناحية، وتحجيم قوة إيران التي يهيمن عليها الشيعة من ناحية أخرى. ثم بعد فترة قصيرة، تدخلت إيران في سوريا لدعم نظام الأسد ضد المتمردين السنة الذين من المرجح أن يجعلوا من سوريا موالية للمملكة العربية السعودية إذا ما انتصروا. ومثل هذه التطورات أدت إلى مخاوف من أن منطقة الشرق الأوسط ستشهد ظهور دويلات متهورة ذات منطلقات إيديولوجية عازمة على تدمير النظام الإقليمي. وبعض المراقبين يشعرون بالقلق، بأنه إذا حصلت إيران على أسلحة نووية، قد تستخدمها لزعزعة التوازن الهش في الشرق الأوسط بل حتى قد تقود إلى نهاية العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق