السبت، 27 يونيو 2015


أسطورة الرقص الشرقي
هويدا الهاشم
انتظروني... سأعود!

هويدا الهاشم على درج فيللتها في ليماسول

كل أمجاد الفن لا تعوّض المرأة لحظة واحدة من شعورها بالأمومة!
                     

بقلم وكاميرا
جوزف قرداحي / ليماسول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


هويدا الهاشم في حوارها مع جوزف قرداحي

لماذا هي اسطورة الرقص الشرقي؟!
لأن هويدا الهاشم ارتقت بالرقص الشرقي من الأضواء الخافتة إلى أنوار المسرح الساطعة، ونفضت عنه آثام الإثارة المبتذلة وألبسته ثوب الإغراء الراقي، وانتشلته من أزقة البيوت السفلية ونقلته إلى بيوت العائلات المحترمة.
منذ إشراقتها الأولى على عالم الفن، أصبح للرقص الشرقي عصران: عصرٌ ما قبل هويدا الهاشم وعصرٌ ما بعدها. فأقبلت بنات الجامعات على مدارس الرقص تأثراً بها، بعد أن كان الرقص الشرقي مقيداً بأغلال التقاليد ومضطهداً من شريحة كبيرة من المجتمع المحافظ. فجاءت هويدا الهاشم إلى ساحة الفن الراقي، كحورية خارجة من الأساطير، كأميرة من حكايات الف ليلة وليلة، كشهرزاد عصرية تدهش شهريار بخصرها الذي يحكي مع كل إيقاع ونغمة ألف حكاية وحكاية.

هويدا الهاشم في أحدث صورة لها بكاميرا جوزف قرداحي

غابت هويدا الهاشم منذ أكثر من عشر سنوات عن ساحة الرقص فجأة، ودون سابق إنذار أو عذر شرعي تخفف به حرارة الشوق اليها، شوق الملايين من عشاقها ومعجبيها، فغابت الأضواء عن ساحة الرقص، وخصوصاً بعد انتشار موجة المغنيات الراقصات، التي غزت الفيديوكليبات بأغنيات هابطة في المستوى والأداء، والمرتكزة على الإثارة الرخيصة والمشاهد الإباحية.  فأحدث غياب هويدا المفاجىء فراغاً حقيقياً في ساحة الرقص الشرقي، وترك الكثير من علامات الاستفهام حولها. منهم من قال: اعتزلت، ومنهم الآخر قال: تزوجت، ومنهم الأخير قال: هاجرت وتركت كل أمجاد الفن في سبيل التفرغ لعائلتها ولحياتها الخاصة.
لكن ما حقيقة الأمر؟ وهل يحق لمن امتلكت المجد من جميع أطرافه، أن تتخلى عنه بكل هذه السهولة في سبيل الحب والزواج والأمومة؟!

وكأن الأمس هو اليوم

أسئلة كثيرة حملتها معي من بيروت إلى قبرص، ولا سيما أن فاصلاً زمنياً لا يقل عن العشر سنوات انقطعت في خلاله أخبار هويدا عني، على الرغم من التواصل الدائم مع شقيقها الشاعر والملحن جورج الهاشم الذي كان قد أطلق منذ فترة شهر تقريباً موقعاً يحمل إسمها على "الفايسبوك" أشعل بصورها وكليباتها وأغلفتها مواقع التواصل الإجتماعي، وألهب مشاعر عشاقها ومعجبيها الذين توافدوا للإنضمام إلى صفحتها بالمئات، حتى وصل عددهم وبفترة لا تتجاوز الاسبوع ما يزيد عن المليون متتبع لأخبارها وصورها وأكثر من عشرين ألف منتسب والحبل على الجرار. وهو الأمر الذي زاد من حماستي ودفعني للتوجه من بيروت إلى مقر إقامتها في ليماسول، للتأكد والأستفسار والإطلاع عن كثب على ما يدور في كواليس عائلة هويدا الهاشم التي حضنتها منذ انطلاقتها، واستمرت في رعايتها في أوج مجدها وشهرتها، وما زالت تحضنها وترعاها برموش العيون كما لو أنها في الأمس واليوم وغداً.
في فيللتها المتربعة على هضبة جميلة من هضاب ليماسول، التقيت أسطورة الرقص هويدا الهاشم وكان هذا الحوار:
·       التقيكِ اليوم كما التقيتكِ في المرة الأولى لصورة أول غلاف لكِ بكاميرتي على مجلة "الشبكة"... هل تذكرين؟... وكأن الأمس هو اليوم، وكأنك لا تتأثرين بالزمن!
-        وكيف لي أن أنسى أهم وأجمل لحظاتي الجميلة؟! لقد كانت تلك الصورة التي أقف فيها أمام بركة السباحة في "الغولدن بيتش" من أهم الصور ومن أهم أغلفة المجلات الفنية. كانت فعلاً أياماً جميلة على الرغم من أنها كانت في زمن الحرب. كنا نعرف كيف نصنع الفرح في زمن الحزن والقتل المجاني، ولولا تمسكنا بالحياة وصمودنا ما بقي لبنان.
·       كنتِ في ذلك الحين "حديث البلد" الحقيقي، وحديث أهل الفن وأهل الصحافة والإعلام، إلى درجة أن أقلاماً كبيرة لأدباء كبار كتبت عنك مثل الأديبين الراحلين جورج ابراهيم الخوري الذي وصفكِ ب"الدرة اليتيمة" أي الجوهرة النادرة، وجورج جرداق الذي كتب عنكِ في زاويته الشهيرة: "فوق كتفيها وتحت قدميها كل حقوق المرأة"، وزغلول الدامور الشاعر جوزف الهاشم الذي وصفك في برنامج "جار القمر" على محطة "الأوربيت" بـ "شهرزاد الرقص الشرقي" التي ترتجل الرقص أمام جمهورها تماما كما كانت شهرزاد ترتجل الحكايات أمام الملك شهريار، و"صانع النجوم" سيمون أسمر الذي وصفك بـ"البركان" المتحرك على المسرح، ولا أنسى طبعاً الفنان السوري الكبير دريد لحام الذي قال حين شاهدك ترقصين: أن هويدا الهاشم تطرب النظر برقصها كما الوسوف يُطرب السمع بغنائه.
هويدا الهاشم: الأمومة هي المجد الحقيقي للمرأة

ولكن السؤال: كيف لهويدا الهاشم أن تتخلى عن كل هذه الأمجاد وهذه الأضواء، وتختفي عن الأنظار بسحر ساحر، ودون سابق إنذار؟
-        سأختصر لكَ الأمر وأقول بكل بساطة: كل أمجاد الدنيا، لا تعوّض شعور المرأة بالأمومة... فالمجد الحقيقي هو هذا الشعور العاطفي النبيل، الذي يجعل المرأة تدرك كنه أنوثتها الحقيقية مهما حققت من أمجاد. فكل أمجاد الفن برأيي لا تعوّض المرأة لحظة واحدة من شعورها بالأمومة!
·       أفهم من كلامك هذا أنك تخليتِ عن فنكِ في سبيل الزواج والإنجاب وبناء عائلتك الزوجية الخاصة؟
-        حياة الفنان تمر بمراحل مثل أي إنسان عادي. يحب، يتزوج وينجب. وقد يأخذ استراحة من الفن قد تطول وقد تقصر. ولكن الفنان الحقيقي لا يمكنه أن يتخلى عن فنه لأي سبب كان، ومهما طال غيابه لا بد أن يعود من جديد إلى ساحته!
·       وكأنك تعلنين بطريقة غير مباشرة أنك ستعودين إلى ساحة الرقص؟!
-        نعم سأعود، ولكن بطريقة مختلفة عن السابق، ومن خلال العروض الأستعراضية على المسارح الكبيرة، يتخللها تابلوهات راقصة مع فرق فولكلورية ضخمة ومن ثقافات متعددة وبلدان مختلفة!
·       ستتخلين عن الرقص الشرقي التقليدي لصالح الرقص الفولكلوري؟
-        لا، إطلاقاً... سأمزج ما بين الرقص الشرقي الأصيل والفولكلور. والرقص في الأصل له جذور واحدة ولغة جامعة، وهي لغة التعبير بالجسد، سواء عبر الفولكلور أو الباليه أو الإيقاعي الشرقي.
·       هذه بشرى سارة لجمهورك الذي اشتاق لفنك الأصيل؟
-        أعد جمهوري في لبنان والعالم العربي وفي بلاد الإغتراب بأنني سأعود، انتظروني!
·       هنالك الكثير من التساؤلات وخصوصاً من الوسط الفني عن سبب عودتك الحقيقية، بعد كل هذا الغياب الذي طال أكثر من عشر سنوات؟
-        السبب الحقيقي لعودتي وكما قلتُ لكَ سابقاً هو حبي لفني واشتياقي لجمهوري... كل فنان معرض لظروف معينة قد تحجبه مؤقتاً عن الأضواء. وخصوصاً حين يكون عليك أن تعطي الأولوية لأمور لا يمكن تأجيلها مثل الإنجاب والأمومة. فأنا منذ أنجبت إبني الذي أصبح اليوم في الثامنة من عمره كرست كل وقتي وحياتي له، وهي المرحلة الأهم في حياة الطفل. وأنا دوري كأم أهم بكثير من دوري كفنانة، وخصوصاً في المراحل الأولى من حياة طفلي. فلا يمكنني مثلاً أن أعهد بإبني إلى المربية أو الخادمة كي تربيه عني. أريد أن اراقبه كيف يكبر، كيف يتنفس، كيف يأكل، ويضحك ويبكي، كيف تنمو أسنانه الأولى، وكيف يتعلم مشيته الأولى، كيف يقف على رجليه الطريتين كلما تعثّر ووقع ثم يحاول النهوض من جديد. أريد أن أتحسس جلده الطري حين أحممه، أن اتنشق رائحته، أن أعبر له كم أحبه، لا بل كم أعبده!
·       حين أشاهدك كيف تطبخين الطعام بيديكِ ثم تعدين المائدة بنفسك لتطعمي ابنك المجدرة، لا أتخايلك سوى بنت الضيعة، تعيشين الحياة اللبنانية القروية التقليدية بكل بساطتها، وبعيداً عن كل الرفاهية التي تحيطك في فيللتك الفخمة؟
-        صدقت، أنا قروية بطبعي، ولدت في القرية وترعرت بين طبيعتها، أحب البساطة في العيش بعيداً عن كل المظاهر المزيفة. عمري ما أحببت المدن وضجيج المدن، على الرغم من ابتعادي عن قريتي الشوفية سرجبال منذ اندلاع الحرب في لبنان. ولكن جذورك تنقلها معك اينما اتجهت أو تغيرت الجغرافيا والأماكن.
(يتبع)
في الحلقة المقبلة:
هويدا الهاشم:
ترقص على المسرح على إيقاع التيكواندو!



الخميس، 18 يونيو 2015

صونيا فرنجية شاهدة على متانة الروابط بين لبنان والسعودية

فرنجية تحمل على العهد الشهابي في لبنان أي عهد الرئيسين فؤاد شهاب وامتداداته في عهد خلفه شارل حلو، فظائع جهاز المخابرات المعروف بالمكتب الثاني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بين صونيا فرنجية والملك سلمان!






بقلم أحمد عدنان* في منتصف الستينات الميلادية، تزوجت صونيا، ابنة الزعيم اللبناني سليمان فرنجية، من الطبيب عبدالله الراسي الذي يعمل في الرياض، وقبيل سفرها إلى المملكة، نصحها والدها “أنت تسافرين إلى بلد غريب ومختلف تماما عن بلدك. تذكري دائما أن عليك احترام عاداتهم وتقاليدهم هناك. والعائلة المالكة السعودية توازي العائلات المالكة في أوروبا أهمية. إذا تكلفت عناء الإصغاء بانتباه، يمكنك أن تتعلمي القيم العربية الحقيقية. وقد تكون هذه تجربة مثرية جدا لك”.













كان استقبال صونيا وزوجها في الرياض حافلا، فاللبنانيون والسعوديون من معارف عبدالله لم يتوقعوا عودته لأنهم ظنوا أن ابنة سليمان فرنجية لن تقبل بالعيش في المملكة. تصف صونيا لبنانيي المملكة في تلك المرحلة، بأنهم لا يفكرون إلا في شيء واحد، العمل لأقصر فترة ممكنة وجني أكبر مبلغ من المال للعودة إلى لبنان مجددا، نادرون جدا كانوا أولئك الذين يبذلون جهدا لفهم حياة السعوديين. تقول صونيا إن التوجس ساد بين اللبنانيين والسعوديين، إذ كانت عمليات النصب التي يرتكبها بعض اللبنانيين مستغلين جهل السعوديين لا تحصى وبمبالغ طائلة. كان السعوديون يتخوفون من أيّ لبناني، كانوا شبه أكيدين كلما التقوا أحدهم أنه سيسعى للإيقاع بهم، فأصبحوا أشرارا كلما أتيحت لهم الفرصة. كانت ذهنيتا البلدين مختلفتين تماما، لكن المبالغ المالية الضخمة المستثمرة في المشاريع تولت تلطيف المشاعر السيئة.


رغم التوصيف المبالغ به لصونيا فرنجية، إلا أن بعض تلك الصور التي رسمتها جعلت لزوجها عبدالله الراسي دورا مهما في الرياض، فبالإضافة إلى عمله كطبيب، لعب دور السفير والقاضي والمحامي عند السعوديين واللبنانيين، تمتع بتلك المكانة لنزاهته الشخصية، وقبل ذلك لصداقته مع حاكم الرياض، الذي سيصبح حاكم المملكة كلها بعد نصف قرن، الأمير سلمان.
حين تقع مشكلة بين طرف سعودي وطرف لبناني، إذا كان السعودي هو المخطئ يتولى أمره الأمير سلمان، أما إذا كان اللبناني هو المخطئ، فعبدالله هو من يدفع المبلغ المختلف عليه من جيبه الخاص، كما يتكفل بتذكرة السفر، وينتهي الأمر. أدوار عبدالله الراسي جعلت عيادته مركزا مهما في الرياض، يضاف إلى ذلك ثقة العائلة الملكية به.
سور الرياض
الصحراء صدمت صونيا بفلواتها التي لا تنتهي من الرمل والكثبان والصمت. تقول فرنجية “الصحراء تسحق المرء بجلالها. في الليل، لا غيمة تكدّر سماء المملكة، القمر والنجوم في متناول اليد، تلك النجوم تبرق كما لا تبرق في أيّ مكان آخر. لا تعرف الصحراء الظلام الكامل أبدا، فإن غاب القمر أشعّت النجوم”.
دعت والدة الأمير هذلول بن عبدالعزيز، عبدالله وزوجته إلى العشاء، كانوا أربعة، هذلول ووالدته وعبدالله وزوجته. على مائدة الطعام البالغ طولها ستة أمتار، قدمت خروفين فوق وعاء كبير ومستدير من الأرز، يحيط بهما عدد لا يحصى من الأطباق الفاخرة والغنية. بعد أسبوع، دعت صونيا أم هذلول إلى العشاء في منزلها وقدمت لها مأدبة لبنانية صرفة. بعد فترة من الوقت، دعت أم هذلول صونيا إلى عشاء يتلوه فيلم سينمائي، فوجئت صونيا بأن أم هذلول أعدت مأدبة لبنانية مطابقة لمأدبتها. سألت أم هذلول ابنة سليمان فرنجية “ألست أتعلم بسرعة؟!”، فحارت صونيا جوابا إذ لم يسبق لها قط أن التقت بامرأة يسيطر عليها كل هذا النهم إلى التعلم.
رتبت أم هذلول لقاء لصونيا فرنجية مع الملك فيصل عام 1966. تصف صونيا قصر الملك، هندسته متواضعة وقاعات استقباله شاسعة، السجادات الضخمة غطت الأرض، واللوحات التي تحمل صورة الملك عبدالعزيز زينت الجدران. استقبل الخادم أم هذلول وصونيا بالقهوة العربية ثم دخل الملك، انبهرت صونيا بجلاله العظيم، كان نحيل البنية في ثوبه الأبيض الطويل، يتحرك بأناقة ناسك متقشف تسيطر عيناه الثاقبتان على المشهد. أسف الملك على مرض صديقه حميد فرنجية مؤكدا على أن أخاه سليمان يحمل المشعل بامتياز، أبدى حزنه على تفرق العرب، وأعلن غضبه من تصرفات إسرائيل الاستفزازية والإجرامية. رجت صونيا من الملك فيصل بأن لا يهدموا سور الرياض القديم، لمعت عينا الملك بألف سؤال، ثم صافحها في نهاية اللقاء شاكرا. وبعد يومين من لقاء صونيا، صنف فيصل سور الرياض معلما تاريخيا.
تعرفت صونيا أيضا إلى زوجة الملك فيصل، رافقتها في الزيارة الأولى صديقتها جميلة فرعون زوجة مستشار الملك رشاد فرعون. كان استقبال زوجة فيصل بعيدا عن التكلف، الملكة الشقراء تضم شعرها الطويل في كعيكة بسيطة. في حضور الملكة، خالت صونيا نفسها في بيت إنكليزي، فالأثاث بسيط، لكنه ثمين أيضا.
زارت صونيا إحدى زوجات الملك السابق، سعود، رأت أمام القصر سيارة كاديلاك بنفسجية اللون، استقبلتها الأميرة عند المدخل بملابس بنفسجية، اندهشت صونيا حين دخلت القصر، فكل شيء فيه بنفسجي، السجاد والجدران والأثاث والستائر والمصابيح، حتى علب المناديل كان لونها بنفسجيا.كتاب يزخر بجوانب إنسانية مشرقة في شخصية الملك سلمان إضافة إلى سيرة بنائه لمدينة الرياض
غادرت صونيا إلى لبنان لتلد ابنها البكر، حين عادت فوجئ عبدالله الراسي ببدوي سبق أن عالجه يقطع الصحراء وصولا لعيادته في الرياض كي يهديه معزاة مؤكدا أن حليبها هو الأفضل في العالم لتقوية الوليد. كانت مكانة الراسي في المجتمع مرموقة، فهو طبيب الأمراء والبسطاء، ويروى أن الطبيب المحترم قطع مئتي كيلومتر في عمق الصحراء كي يعالج مريضا احتاجه. ومن الواضح أن عمله في الرياض دعّم سيرته ليكون نائبا في البرلمان اللبناني ثم وزيرا للداخلية لاحقا.
اندلعت حرب 1967، ألقى الملك فيصل خطابا في ميدان سباق الخيل بعد الظهر، أكد الملك على التزامه بالواجب المقدس، القتال من أجل فلسطين، صاحت الجماهير مطالبة الملك بقطع النفط لكنه تجاهل هذه الصيحات، فانفض الحشد غاضبا. في نفس ذلك اليوم كانت صونيا تحضر قداسا في مجمع البعثة الدبلوماسية الأميركية بالرياض، كانت صيغة الدعوة للقداس عجيبة “سيصل آكل السمك عند الساعة الخامسة”. بعد حضور القداس وتناول القربان المقدس، اتجهت صونيا وصديقتها الأميركية “ليزيت” إلى المنزل، تزامن ذلك مع انتهاء خطاب الملك، اصطدمت السيارة بحشد من المتظاهرين الغاضبين، شاهدوا صونيا وليزيت داخل السيارة فصاحوا “أميركان، أميركان”، حوصرت السيارة بالناقمين، وجوههم تشي بالكراهية وأياديهم تلوح بالعصي، صعد بعض الشبان فوق صندوق السيارة وفوق غطاء المحرك، وبمعجزة لافتة لاحظ السائق ثغرة خالية من الناس ومن الحفريات فانطلق خلالها كالصاروخ ولم يتوقف إلا في الصحراء، أوقف السائق سيارته وخرج منها باكيا بعد أن واجه الموت المحقق. ذهب عبدالله الراسي للأمير سلمان شاكيا مما جرى، ابتسم الأمير برقة قائلا لطبيبه “أنت ترتجف كالورقة يا عبدالله، عد إلى منزلك، سوف نتخذ التدابير اللازمة”. في اليوم التالي تمت الدعوة إلى تظاهرة عامة، لكن الجيش السعودي غطى الرياض، تم اقتياد المتظاهرين غير السعوديين إلى الحدود الأردنية، سلمهم الحرس الوطني بنادق ليقاتلوا في الجبهة لا في شوارع الرياض.
هدية الأخ الأكبر
تشهد صونيا فرنجية على رسالة سرية أوصلها السفير اللبناني الساحر عادل إسماعيل من الرئيس شارل حلو إلى الملك فيصل، بعدها وصل إلى الرياض ثلاثة ضباط من الجيش اللبناني والتقوا الأمير سلمان، قال لهم الأمير “طلبكم سيلبى قبل أن تطلبوه”. وبالفعل، انطلقت إلى بيروت أربع طائرات سعودية محملة بكل أنواع الأسلحة إلى الجيش اللبناني “هدية من الأخ الأكبر إلى الشقيق الأصغر”، بعد إرسال الهدية، قال الأمير سلمان لعبدالله الراسي “هذه الأسلحة فقدتم الأمل في امتلاكها من السوق العالمية، ونحن أهديناها لكم، ألا نستحق كلمة شكرا؟!”. كاتب عبدالله حماه سليمان فرنجية، اتجه سليمان إلى الرئيس شارل حلو الذي قال له “لا يستحقون الشكر فقد دفعنا ثمن الأسلحة”، تم التحقيق في الموضوع، لتكتشف السلطات اللبنانية أن السعوديين أهدوا الجيش اللبناني أسلحة مهمة بلا مقابل، لكن المكتب الثاني اختلس ثمنها الحقيقي من الخزانة اللبنانية، ولتلافي الحرج، أرسل شارل حلو قائد الجيش اللبناني إلى الطائف ليقابل الأمير سلطان بن عبدالعزيز وزير الدفاع ويسلمه وساما رسميا رفيعا.
تقول صونيا فرنجية “منذ عهد الملك عبدالعزيز، حظي لبنان بمعاملة خاصة من المملكة، فلم ترفض المملكة أبدا أيّ طلب مساعدة من اللبنانيين”. وتروي صونيا عن الملك المؤسس جملة تاريخية سمعتها من كبار أبنائه “لبنان هو نافذتنا المفتوحة باتجاه الغرب بفضل مسيحييه، دعونا لا نغلق هذه النافذة حتى لا نختنق. يجب أن يكون رئيس لبنان مسيحيا”.صونيا فرنجية: منذ عهد الملك عبدالعزيز، حظي لبنان بمعاملة خاصة من المملكة
بعد أن تولى سليمان فرنجية رئاسة لبنان، زارها وزير الدفاع الأمير سلطان، أهدى إلى صونيا ساعة بياجيه قاعدتها مرصعة بالفيروز وسوارها من المرجان، أقام الجيش اللبناني استعراضا جويا على شرف الأمير، لكن إحدى طائرات الميراج أصيبت بعطب تقني أسقطها أمام الحضور، وبعد أن اطمأن الأمير على سلامة قائدها أعلن “السعودية ستقدم للبنان كل ما يريد”، وللأمير سلطان زيارة تاريخية إلى زغرتا.
زار الملك فيصل أيضا لبنان في عهد فرنجية في ظل توتر أمني واضح، وقال في خطاب بقصر بعبدا “لبنان بلد المحبة، لبنان ملجأنا”. على هامش تلك الزيارة تم اعتقال السياسي اللبناني جان عبيد بتهمة ابتزاز رئيس الحكومة صائب سلام وتزوير أوراق رسمية تتعلق بالزيارة. وتلت رحلة الملك زيارة الأمير عبدالله بن عبدالعزيز العاشق الكبير للبنان، لفت صونيا تساؤلات الأمير عبدالله عن الواعظ الشيعي المسيس موسى الصدر.
في عام 1973 زار سليمان فرنجية الرياض مع النواب د. عبدالله الراسي وطوني فرنجية وناظم عكاري، استقبله الملك فيصل في خيمة تتسع لـ700 فرد ورقص مع أشقائه العرضة النجدية ترحيبا برئيس لبنان. في اليوم التالي وقف الأمير سلمان مع طبيبه عبدالله الراسي وطوني سليمان فرنجية فوق أعلى بناية في الرياض، سأل طوني زوج أخته عن موقع منزله القديم، عجز الراسي عن تحديد موقع بيته من علو، وهنا تدخل الأمير سلمان مشيرا إلى موقع المنزل ثم التفت إلى عبدالله قائلا “كلما مررت من هناك أفكر فيك وفي أسرتك”.
في منتصف السبعينات ألقى سليمان فرنجية خطابا في الأمم المتحدة، وبعد فراغه من الكلام لاحظ غياب الوزير السعودي عمر السقاف الذي صرح خلال الوساطة الأميركية بين مصر وإسرائيل نهاية حرب أكتوبر “نتمنى النجاح لكيسنجر، لكن ليس على حساب العرب”، في المساء أعلن الخبر، توفي عمر السقاف الساعة الخامسة عصرا في فندقه في ظروف غامضة ولم يكتشف الحراس جثته إلا في الساعة السابعة، أراد الرئيس الأميركي جيرالد فورد أن تقل الطائرة الرئاسية جثمان السقاف إلى المملكة، لكن الملك فيصل رفض وأرسل طائرة سعودية لاستعادة الجثمان، في الطريق إلى المطار لاحظت صونيا زوجة السقاف تصرخ “الأميركيون قتلوا زوجي”.
مع بدء الحرب الأهلية، كادت الدولة اللبنانية أن تعجز عن إمداد النفط لشعبها، ذهب الوزير غسان تويني إلى المملكة، وكالعادة لم يرفض المسؤولون السعوديون طلبا للبنان، فتدفق النفط في أنابيب الدولة اللبنانية، وشعر سليمان فرنجية بامتنان كبير نحو الأمير سلمان الذي لعب دورا كبيرا في إتمام العون.
تحمل صونيا على العهد الشهابي في لبنان، أي عهد الرئيسين فؤاد شهاب وامتداداته في عهد خلفه شارل حلو، فظائع جهاز المخابرات المعروف بالمكتب الثاني، أخبرها الأمير سلمان أنه كان متجها بسيارته في أحد الأيام إلى عالية، استوقفه في منطقة الجمهور حاجز تابع للمكتب الثاني ليتم إخضاع الأمير للاستجواب مدة نصف ساعة بسبب ظهوره حليقا بينما صورته في جواز السفر بلحية، وتلك القصة تصور بعض استهداف المكتب الثاني للأمراء السعوديين ترضية لمصر جمال عبدالناصر.
جوانب من تاريخ المملكة
تلك مقتطفات من مذكرات صونيا فرنجية الراسي “وطني دائما على حق”، التي تزخر بقصص عن حكمة الملك سلمان وجوانب إنسانية مشرقة في شخصيته إضافة إلى سيرة بنائه لمدينة الرياض من العدم، ومن حسن حظنا أن صونيا وزوجها الوزير عبدالله الراسي ارتبطا بعلاقة وثيقة مع أسرة الملك سلمان، حتى أن الأمير سلطان بن سلمان حين عاد من رحلته الفضائية أرسل بطاقة مصورة وموقعة إلى صونيا، ليقدم لنا الكتاب جوانب خفية من تاريخ المملكة كما قدم لنا صفحات منسية من تاريخ لبنان، سيدهش القارئ بقصة تاجر الزمرد الذي احتال على والدة الأمير هذلول رغم أنها أكبر مالكة زمرد في العالم العربي، إتقان الأمير ماجد للهجة الزغرتاوية، هيام الأميرين نواف بن عبدالعزيز وسطام بن عبدالعزيز بالكبة الإهدنية، تفاصيل زواج الملك فيصل بالملكة عفت، علاقة الأخوة بين اللبنانيين والسعوديين وتطورها، وغير ذلك كثير في كتاب لا يُمَلّ رغم انحيازاته.

صحافي سعودي *